النخب التي أدارت تونس بعد الثورة قد فشلت في التخلص من ميراثهما معا. وهو فشل جعل ورثة المنظومة القديمة يتصدرون المشهد العام ويتحكمون – من مواقعهم المختلفة - في مسار الانتقال الديمقراطي ومخرجاته الهشة
رغم أن موضوع العدالة الانتقالية كان موضوعا "إجماعيا" بين مختلف الفاعلين الجماعيين بعد هروب المخلوع، فإن مسار "الانتقال الديمقراطي" - بالإضافة إلى كون أغلب المستفيدين من جبر الضرر هم من النهضويين رغم وجود غيرهم من اليساريين والقوميين بل الدساترة - جعله يتحول إلى موضوع تنازع أيديولوجي وسياسي
حركة النهضة لن تستطيع مغادرة هذه "الوظيفة" إلا عندما تمتلك الشجاعة للاعتراف بطابعها "العلماني" من جهة أولى، ثم تنحاز من جهة ثانية بصورة مبدئية للمقهورين وضحايا المنظومة بصرف النظر عن خياراتهم الفكرية والسلوكية، رغم ما يعنيه ذلك من خسارة لجزء مهم من قاعدتها الانتخابية
مهما كانت مواقفنا من رئيس الجمهورية التونسية السيد قيس سعيد ومن طبيعة مشروعه السياسي أو حقيقة ارتباطاته محليا وإقليميا ودوليا، فإن وصوله إلى قصر قرطاج قد أظهر مدى هشاشة التوافقات الانتهازية التي حكمت تونس
لعل انحصار مقترح الرئيس في المستوى السياسي وتجنبه أية مقترحات اقتصادية واجتماعية؛ يدلان على هشاشة ذلك المقترح واشتغاله بمنطق "التأجيل" المتعمد للقضايا الحقيقية للفئات المسحوقة، التي جعل الرئيس نفسه ناطقا أوحد باسمها
مهما اختلفنا في تحديد دور رئيس الجمهورية في الأزمة الحالية، ومهما تباينت آراؤنا في توصيف حقيقة ارتباطاته الداخلية والخارجية، فإن الإنصاف يقتضى منا التذكير بأن هذا الوافد "الملتبس" على الحياة السياسية لا يفعل غير تعرية أزمة سابقة عليه، والدفع بها نحو نهاياتها المنطقية
بالإضافة إلى مخاطر "تسييس" المؤسسة العسكرية وإقحامها في الصراعات العبثية بين الرئيس وخصومه، فإن التوجه إلى القضاء العسكري في قضايا تهم مدنيين وترتبط بحق النشر والتعبير، سيظل هاجسا يهدد التجربة الديمقراطية التونسية ما لم يبادر المشرّع إلى حسم هذه القضية.
مجمل ما يُسمى بـ"الانتقال الديمقراطي السياسي" هو انقلاب ناعم على روح الثورة وعلى انتظارات التونسيين، وهو ما يجعلنا نعتبر الوثيقة جزءا من مسار انقلابي كامل
حضور الرئيس التونسي للمؤتمر الباريسي هو تعبير عن اندراج تونس في الاستراتيجيات الفرنسية في المنطقة وحرصها على عدم التخلص من "الوصاية" الفرنسية أو استعمارها غير المباشر لتونس، ثقافيا واقتصاديا
لا نرى مخرجا من هذا المأزق التاريخي إلا بثورات تصحيحية (لا علاقة لها بانقلابات العسكر أو أصحاب "القضايا الصغيرة") تعيد هندسة الوعي بمختلف تجلياته الدينية والسياسية والنقابية والثقافية، قبل أي تفكير في إعادة هندسة الواقع الاجتماعي محليا أو محاولة تغيير التوازنات الإقليمية
رغم الفوارق الكثيرة بين المرحوم الباجي قائد السبسي والرئيس الحالي قيس سعيد فإن ما يجمع بين الرجلين هو خلفيتهما الحقوقية، وسعيهما إلى الانقلاب واقعيا على القانون المنظم للسلطات، وذلك بمركزة السلطة في قرطاج ومحاولة تهميش السلطة التشريعية، وتدجين رئيس الوزراء ليتحول بحكم الأمر الواقع إلى "وزير أول"
في الأشهر الأخيرة، يلاحظ المتتبع للشأن التونسي تزايد الدعوات إلى "عسكرة" الشأن العام، أي إلى تدخل المؤسسة العسكرية لإدارة الملفات التي عجزت عنها المؤسسات المدنية أو أدارتها بصورة لا تُرضي دعاة تلك العسكرة
إذا كان من اليسير إقناع المواطن التونسي بأن حركة النهضة تتحمل جزءا هاما من المسؤولية - أخلاقيا وسياسيا - عمّا حصل في البلاد منذ المرحلة التأسيسية، فإنه من الصعب إقناع ذلك المواطن بأن البلاد ستصبح جنة بمجرد إخراج النهضة من الحكم (ووضع الإسلاميين في السجون)
نحن نرجّح أن الرئيس وحلفاءه الإقليميين قد انتبهوا إلى أنّ سردية مقاومة الفساد ورفض التطبيع قد فقدت قوتها التفاوضية، وهو ما يستدعي الالتجاء لسردية أثبتت فعاليتها في إضعاف حركة النهضة وابتزازها: سردية محاربة التطرف والإرهاب، أو سردية الدفاع عن النمط المجتمعي التونسي
لو أردنا تقييم أداء الرئيس قيس سعيد، فإننا لن نجد أفضل من معيارين ارتضاهما هو لتقييم غيره من السياسيين: المعيار الأخلاقي- الشرعي (خاصةً قيمة الصدق) والمعيار السياسي (خاصةً قيمة الإنجاز)