ما أقدم عليه رئيس الدولة في هذا الشأن أعطى نتائج عكسية. أراد أن يقزم القضاة بناء على عينات تثبت فساد البعض منهم، وأن يُخضع الجميع لإرادته وسياسته عبر الضربة القاضية، إذا بهم يستوعبون الصدمة بسرعة، ويحولون اتجاه كرة النار نحو رمز الدولة وأسلوبه في إدارة الحكم..
الحالة لم تعد "طبيعية"، وأن رغبة الرئيس سعيد في فرض أجندته ستخلف وراءها كسورا يصعب إصلاحها سياسيا، خاصة بعد أن تخفق آخر المحاولات لترقيع العلاقة بين قصر قرطاج وقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل
تبدو الصورة أحيانا أشبه بصيغة اللجان الشعبية على الطريقة الليبية، دون أن تتوفر لأنصار سعيد نفس القدرات والخبرات التي حصل عليها سابقا أتباع العقيد القذافي، وفي ذلك مخاطر كبرى يمكن أن تهدد الدولة في مفاصلها الأساسية.
يتواصل الدوران حول نفس المكان، حيث استأنفت الأطراف الدولية ضغوطها على الرئيس قيس سعيد. يصدر بيان عن هذه الجهة، ثم يقع إجراء اتصال بأحد المسؤولين في تونس، بعد ذلك يقرر طرف آخر إرسال مبعوث أو وفد من أجل إحراج صاحب السلطة والقرار.
هناك أزمة عميقة تشق مختلف دول المنطقة، وتمنعها من التحول إلى مجتمعات حرة وديمقراطية. جرت العادة أن يتم تفسير ذلك وتعليله بدور العوامل الخارجية، مثل القوى الغربية التي تحرص على حماية مصالحها من خلال إدامة الهيمنة على المنطقة. لكن على أهمية هذا الجانب، غير أنه لا يفسر وحده الاستبداد
إذا كان المبرر الأساسي لقيام حزب جديد سيكون فقط الخلاف التنظيمي حول احتكار القيادة من قبل راشد الغنوشي، فإن هذا الحزب لن يذهب بعيدا، وسيكون مآله الدوران من جديد في نفس الحلقة المفرغة.
قيس سعيد ليس نسخة مكررة من زين العابدين بن علي؛ يختلف معه في أشياء عديدة، لكن مع ذلك، يبدو أن هناك من يدفع به نحو الوقوع في نفس المطب. هناك من يريد أن يحسم الخلاف بين الرئيس وخصومه عن طريق الحلول الاستثنائية..
يبدو أن قرار إيقاف وزير العدل السابق اتخذ على أعلى مستوى قبل توفير الأدلة التي تدينه بوضوح، لهذا تم الانتقال مباشرة إلى "اعتقاله" دون توفير شروط المحاكمة العادلة.
سيثبت "تهمة الانقلاب" الموجهة إليه من خصومه، وسيعزز بذلك حالة العزلة التي يواجهها حاليا في الداخل والخارج، وبالتالي ستجد تونس نفسها في وضع غير مسبوق اقتصاديا وسياسيا، لأن المغامرة التي ستدخلها البلاد ستكون مجهولة العواقب..
ماذا يقترح للخروج من الأزمة الحالية التي شاركت النهضة في صناعة الجزء الأكبر منها؟ هل الضغط الخارجي وحده كاف للتوصل إلى حل، أم إن المطلوب التخلص من أوهام الماضي، والتفكير في المستقبل بعقلية مختلفة ورؤية جديدة لبلد مرهق؟
ستحمل الأسابيع القادمة إجراءات جديدة تتعلق بالمؤسسة القضائية تحديدا، والتي تجد نفسها اليوم أمام تحديات كبيرة. فهي من جهة مهددة في استقلاليتها النسبية، خاصة في حال صدور مرسوم جديد يقضي بحل المجلس الأعلى للقضاء وإعادة هيكلته وفق تصور بديل، وهو ما يقتضي التصدي لذلك بشكل قانوني ومؤسساتي
لم يفعل مثل آخرين دعوا إلى إحداث قطيعة معرفية مع التراث للتخلص من ثقل الماضي ومن وصاية الأجيال السابقة وطرق تفكيرهم وأجوبتهم عن قضايا وأسئلة مستحدثة، وإنما اعتبر أن التخلص من التراث عملية غير تاريخية