قضايا وآراء

ليبيا وفلسطين.. أبعد وأعمق من رفض التطبيع مع إسرائيل

ماجد عزام
فجر الكشف عن اللقاء احتجاجات في ليبيا
فجر الكشف عن اللقاء احتجاجات في ليبيا
حملت التظاهرات الشعبية العفوية والحاشدة في ليبيا ضد لقاء وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش بنظيرها الإسرائيلي إيلي كوهين في العاصمة الإيطالية روما نهاية آب/ أغسطس الماضي، وضد التطبيع مع الدولة العبرية، والتي دفعت رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة إلى الإعلان ومن السفارة الفلسطينية في طرابلس عن إقالة المنقوش بعدما كان قد جمّد عملها وأحالها إلى التحقيق.. حملت في طياتها دلالات ومعاني عدة تاريخية وفكرية وسياسية وحتى استراتيجية يمكن اختصارها أو اختزالها بعنوان عريض يتمثل بمركزية القضية الفلسطينية لدى الجماهير العربية، وأن هذا لم يكن يوماً مجرد شعار خطابي عابر.

بداية، أعادت التظاهرات الغاضبة في المدن والميادين الليبية إلى الواجهة القانون رقم 162 العام 1957 الذي لا يزال ساري المفعول حتى الآن، ويجرّم التطبيع مع إسرائيل وممثليها بأي شكل من الأشكال، ويعاقب المطبّعين بالسجن والغرامة. وحصل هذا عندما كانت ليبيا مدنية ديمقراطية وملكية دستورية ولو غير كاملة، لكن تطور مع تطور السيرورة الديمقراطية واستكمال بناء المؤسسات (انتخب أول مجلس نواب بشكل حرّ ونزيه في العام 1952 بعد عام على الاستقلال) في البلاد كما في العالم العربي وحواضره الناهضة آنذاك والمنتفضة دعماً لفلسطين التاريخية، وإصراراً على تحريرها من البحر إلى النهر قبل موجة الانقلابات العسكرية وحتى قبل انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة نفسها منتصف ستينيات القرن الماضي.

المواقف الإيجابية تجاه فلسطين وقضيتها وإرسال جيوش لمساندتها وسن قوانين لدعم المقاومة فيها ورفض التطبيع مع إسرائيل، حصلت زمن الأنظمة المدنية الديمقراطية في العالم العربي وقبل سنوات بل عقود من الانقلابات وحكم العسكر وقهر واستبداد الناس وسلب حرياتهم وثرواتهم، وتأميم حياتهم بحجة إزالة آثار العدوان والنكبة وتحرير فلسطين

كانت ليبيا قد أرسلت أيضاً كما دول عربية وإسلامية عديدة متطوعين للجهاد في فلسطين في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، واستقر العديد منهم في فلسطين وكوّنوا عائلات فيها. وهنا تمكن الإشارة مثلاً إلى مؤسس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين الشهيد د. فتحي الشقاقي الذي تنحدر أسرته من أصول ليبية.

وفي السياق نفسه، لا بد من الإشارة إلى واحد من أهم الكتب والمراجع الخاصة بالقضية الفلسطينية للمؤلف الليبي صالح مسعود بويصير "جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن" وهو الكتاب/ المرجع الذي لم يأخذ ما يستحقه من اهتمام. وكانت طبعته الأولى قد صدرت في بيروت بالعام 1968 عندما كانت مطبعة العالم العربي، وبالطبع قبل انقلاب العقيد معمر القذافي بعد ذلك بسنة على النظام المدني الديمقراطي في البلاد.

إذن، التعلق بفلسطين في ليبيا وعلى كل المستويات لم يبدأ مع انقلاب القذافي، بل هو متجذّر وعميق في وجدان وعواطف الشعب الليبي والشعوب والدول العربية تماماً كما لم يبدأ في مصر مع انقلاب 1952، ولا في سوريا والعراق مع انقلابات حزب البعث في البلدين، وهي الدول التي أرسلت جيوشا ومتطوعين للجهاد في فلسطين أيضاً.

الشاهد هنا أن المواقف الإيجابية تجاه فلسطين وقضيتها وإرسال جيوش لمساندتها وسن قوانين لدعم المقاومة فيها ورفض التطبيع مع إسرائيل، حصلت زمن الأنظمة المدنية الديمقراطية في العالم العربي وقبل سنوات بل عقود من الانقلابات وحكم العسكر وقهر واستبداد الناس وسلب حرياتهم وثرواتهم، وتأميم حياتهم بحجة إزالة آثار العدوان والنكبة وتحرير فلسطين.

وبالعودة إلى التظاهرات الشعبية العفوية التي عمّت المدن والميادين الليبية، والتي أكدت مرة جديدة أننا لا نحتاج إلى أنظمة القهر والاستبداد، بل إلى أجواء الحرية والديمقراطية لدعم فلسطين وقضيتها ورفض التطبيع مع إسرائيل والضغط على الحكومات للتوقف والإقلاع عنه.

في السياق الليبي كانت العلاقات مع إسرائيل قد بدأت زمن حكم معمر القذافي وولي عهده سيف الإسلام باتصالات ولقاءات علنية مع الدولة العبرية وممثليها، ولكن ما كان بإمكان الناس الاعتراض أو رفع الصوت ضدها.

ليبياً أيضاً، قال رافائيل لوزون (يصف بنفسه برئيس اتحاد يهود ليبيا) أن القذافي اتصل به بعد ثورة 17 فبراير عارضاً التطبيع واتفاق السلام مع إسرائيل، مقابل مساعدته سياسياً وعسكرياً على قمع الثورة وإجهاضها.

اللافت أيضاً أن التظاهرات الأخيرة تركزت أساساً في مناطق ومدن الغرب والوسط في طرابلس والزاوية والعجيلات وزوارة ومصراتة وصبراتة وزليتن والخمس، حيث لم تصل إلى مناطق ومدن الشرق، حيث سلطة الحاكم الفعلي خليفة حفتر الذي أقام ولا يزال اتصالات ولقاءات تطبيعية مع إسرائيل رغم أن المزاج الشعبي واحد في بلاد الشهيد عمر المختار، لكن الاستبداد والقهر وتطبيع حفتر نفسه هو من يمنع التعبير عن ذلك على نطاق واسع في الشرق.

كان نجل حفتر وولي عهده، صدام، قد زار إسرائيل في العام 2021، وأبدى باسم والده الاستعداد للتطبيع مقابل مساعدته سياسياً وعسكرياً، وتعويم وشرعنة سلطته والحكومة الصورية التابعة له، كما استعانت عائلة حفتر بشركات دعاية إسرائيلية استعداداً للانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة العام الماضي وتم إلغاؤها، وهو نفسه ما فعله منافسه سيف الإسلام القذافي أيضاً.

وفيما يخص خلفيات لقاء المنقوش- كوهين فيمكن الحديث عن عدة معطيات أساسية؛ أولها أن التمهيد للقاء بدا أولاً من واشنطن عبر اللقاء الذي جمع مدير مخابراتها المركزية وليام بيرنز مع رئيس الوزراء عبد الحميد دبيبة في طرابلس، في كانون الثاني/ يناير الماضي، ضمن الجهود الأمريكية لتوسيع دائرة التطبيع والاتفاقيات الإبراهيمية كما تحسين الوضع السياسي، ولدعم الحكومة الليبية في مواجهة اتساع دائرة الانتقاد لها في الداخل حتى من بيئتها الداعمة في الوسط والغرب.

ثم تواصلت السيرورة عبر لقاء الدبيبة في روما مع رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني، في يوليو/ تموز الماضي، حيث طرحت فكرة التواصل واللقاء مع إسرائيل في إطار الجهد الأمريكي وضمن صفقة ثنائية شملت كذلك دعما سياسيا لحكومة الدبيبة، بما في ذلك إعادة تشغيل خط الطيران بين طرابلس والعاصمة الإيطالية.

سعت الحكومة الليبية (كما حكومات عربية أخرى)، إلى تحقيق مكاسب فئوية عبر التواصل والتطبيع مع إسرائيل، غير أن الشعب الليبي أسقط تلك المساعي في ظل أجواء الحريات والتعبير وغياب القبضة الاستبدادية للنظام، علماً أن اتصالات وعلاقات تطبيعية مماثلة سريّة وعلنية مرت في دول عربية أخرى تحكمها أنظمة استبدادية ورغماً عن الشعوب وإرادتها

واضح هنا طبعاً أن الغرب يعمل لخدمة إسرائيل وتوسيع دائرة التطبيع العربي معها، حيث لم يتوقف الأمر برغم الخلافات الغربية المتفاقمة مع الدولة العبرية، وتردي الأوضاع فيها كونها لا تزال قاعدة استعمارية وثكنة عسكرية لخدمة مصالح الغرب كما كان يقول رئيس الوزراء السابق أرئيل شارون دائماً.

في السياق سعت الحكومة الليبية (كما حكومات عربية أخرى)، إلى تحقيق مكاسب فئوية عبر التواصل والتطبيع مع إسرائيل، غير أن الشعب الليبي أسقط تلك المساعي في ظل أجواء الحريات والتعبير وغياب القبضة الاستبدادية للنظام، علماً أن اتصالات وعلاقات تطبيعية مماثلة سريّة وعلنية مرت في دول عربية أخرى تحكمها أنظمة استبدادية ورغماً عن الشعوب وإرادتها.

في البعد الإسرائيلي، كان الإعلان عن اللقاء دعائياً واستعراضياً أراد من خلاله وزير الخارجية الغرّ والمستجد إيلي كوهين، لتحقيق مكاسب شخصية وسياسية، والبعد المتعلق بالدولة العبرية يشي أساساً بانهيار وتراجع كفاءة المؤسسات والقيادات حيث لا تملك الدولة سياسة خارجية بل داخلية فقط، كما قال وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر ذات مرة.

من زاوية أخرى يمثل إيلي كوهين نموذجاً عن الجيل القيادي الجديد في إسرائيل والذي يفتقد إلى القدرات والمواهب كأسلافه. وهنا تمكن المقارنة مثلاً مع وزراء الخارجية السابقين، مثل موشيه شاريت وأبا إيبان وغولدا مئير وإسحق رابين وعيزرا وايزمن وموشيه دايان وشيمون بيريز وموشيه إرينز وشلومو بن عامي ويوسي بيلين وحتى تسيبي لفني، لرؤية المنحنى المنحدر للقيادة والسياسيين الإسرائيليين.

أما في التداعيات فرغم أن كارثة إعصار "دانيال" ومأساة درنة أزالت الملف عن جدول الأعمال الليبي الداخلي ولو مرحليا، فإنه مع ذلك يمكن التأكيد بأن لا تطبيع مع إسرائيل أقله في المدى المنظور، وحتى البعيد المرتبط بتطبيق المبادرة العربية للسلام والتوصل إلى حلّ عادل في فلسطين، وهو ما يبدو سراباً ومستحيلاً مع دفن تل أبيب كل الحلول والتسويات بما في ذلك حلّ الدولتين الميت سريرياً، والذي تستند إليه المبادرة مع التذكير بموقف رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون عند طرحها ومقولته الشهيرة آنذاك: "نلقيها أيضاً في سلة المهملات".

أكد المشهد الليبي ما كنا نعرفه جميعاً وتتجاهله الحكومات الباحثة عن الشرعية والدعم الخارجي، ويتعلق بمركزية القضية الفلسطينية في الوعي العربي الجمعي، ورفض التطبيع مع إسرائيل واستحالة تمريره في بيئة صحية بها الحد الأدنى من حرية التعبير وامتلاك الشعوب القدرة على فرض إراداتها

إلى ذلك وبغض النظر عن التداعيات الداخلية، سيكون للمشهد الليبي تأثير سلبي بالتأكيد على مسارات التطبيع مع الدول العربية والإسلامية الأخرى ضمن ما تسمى بالاتفاقيات الإبراهيمية، حيث الرأي العام العنيد والرافض بوعيه الجمعي وعقله وذاكرته التاريخية العصية على الكسر والنسيان.

وحتماً ستتأثر أيضاً محاولات التطبيع مع السعودية، وستصبح قيادتها أكثر حذراً، وإذا ما أصرت على المضي قدماً ضمن صفقة ثلاثية مع أمريكا وإسرائيل فإن ذلك لن يكون بعيداً عن التفاهم مع القيادة الفلسطينية الحالية -التي لا تزال شرعية للأسف بنظر العرب والعالم- وتقديم ولو الحد الأدنى لها سياسياً واقتصادياً أيضاً؛ لمنع رفع الصوت عالياً ضد الصفقة وتحريض وتعبئة الشارعين الفلسطيني والعربي والاسلامي ضدها.

كما ستطال تداعيات المشهد الليبي كذلك المسارات الإقليمية والجماعية للتطبيع، وستصعب محاولات عقد "منتدى النقب 2" في المغرب وجلب دول عربية وإسلامية إضافية إليه.

في كل الأحوال، أكد المشهد الليبي ما كنا نعرفه جميعاً وتتجاهله الحكومات الباحثة عن الشرعية والدعم الخارجي، ويتعلق بمركزية القضية الفلسطينية في الوعي العربي الجمعي، ورفض التطبيع مع إسرائيل واستحالة تمريره في بيئة صحية بها الحد الأدنى من حرية التعبير وامتلاك الشعوب القدرة على فرض إراداتها وخياراتها على الحكام.
التعليقات (1)
علي الحيفاوي
الخميس، 21-09-2023 01:51 ص
معروف عن الصهاينة كذبهم وخداعهم ولا يمكن الوثوق بأقوالهم وبما قاله هذا الصهيوني رافائيل لوزون الذي يصف نفسه برئيس اتحاد يهود ليبيا، أن القذافي اتصل به بعد ثورة 17 فبراير عارضاً التطبيع واتفاق السلام مع إسرائيل، مقابل مساعدته سياسياً وعسكرياً على قمع الثورة وإجهاضها، والذي لا يعتمد على أي دليل. هدف الصهاينة هو زرع الشك في عقول العرب وخصوصاً في القيادات التي تتخذ موقفاً مبدئياً ضد هذا العدو.