مدونات

لم يعد الصمت محتملا (قصة قصيرة من وحي المعركة)

وليد الهودلي
الأناضول
الأناضول
بعد خمسين يوما من الاعتقال المهين، أفرج عنّا قبل يومين، لننتقل من عالم أسود شديد الحلكة دون أية فرجة من نور، تقف بين المهانتين مهانة، وبين العسرين عسرا، فقط جاء اليسر عندما تمّ إبلاغنا بفكّ قيدنا، انتقلنا إلى عالم أقلّ سوادا بقليل، نلتقط فيه نفسا بين موتتين؛ موتة من القصف بكلّ أنواعه الجهنميّة، جوّا وبحرا وبرّا، وموتة من المجاعة وانتشار الأوبئة وفقر الدم والمناعة وفقر كلّ مقوّمات الحياة.

بعد يومين تمكنّا أنا ورفيقة دربي في الحبسة من الالتقاء، وصلت ذات المدرسة التي وصلت إليها حيث ينزح إليها النازحون والفارّون من لهيب أسلحة الدمار الشامل، كان ذلك في يوم بارد ماطر، السماء تكتظّ بغيوم سوداء تحجب الشمس وتقف بشدة وحزم أمام كل من يحاول التسلل من أشعتها الدافئة، تماما كحاجز عسكريّ لئيم، وغرف المدرسة على ثلاث طبقات مكتظة بالنساء والأطفال المرعوبين والخائفين على أرواحهم، وكلّ منهم له قصة في فراره من بيته ووصوله إلى هذا الملجأ القسريّ، أغلبهم قد فقد عددا من عائلته واعتصم من تبقّى منها في هذه المدرسة.

المهم في ساحة المدرسة التي تطلّ عليها هذه الجماهير المحشورة في غرفها التقيت أنا شهد مع ناريمان، وكانت فرصة لأخرج ما تراكم في صدري من قهر كأنه كتل صخرية أثقلت صدري وسحقت قلبي بكلّ ما فيه من حزن وكرب لا يعلم حجمه إلا الله.

بعد عناق طويل أفرغت فيه كثيرا من شحنات قلبي، انفلت لساني من عقاله:

- اتفقنا في السجن يا روحي أن نتكلّم.

-  أعترف لك أن الموضوع ليس سهلا، لم أتخيّل نفسي كيف سينظر لي أهلي، الناس، كيف سأنظر أنا لنفسي في المرآة، هل تتحمّل نفسيتي هذا الوصف الذي سأُنعت به؟..

ارتسم على وجهي ذات الألم وهاجت عواصف عاتية في صدري، انهمرت عيناي بالدموع ورأيت دموعها كالمطر.

- وهل الصمت هو البديل؟ هل نصمت على جريمتهم؟ هل نذعن لتهديداتهم؟

- لم أقل هذا، الصمت فظيع، سيقتلني كمدا وقهرا. " ثم هزّت راسها بعنف وتابعت: والبوح أشدّ وطئا وألما.

- يا خيّتي باختصار، الكلام نتضرّر منه نحن شخصيّا، بينما الصمت تتضرّر منه قضيّتنا وسنفتح الباب على مصراعيه على هذه الجريمة لأنهم سيقولون: تخشى الفلسطينيات على أنفسهن من فضح ممارساتنا معهنّ، سوف يُمعنون في هذه الجريمة وتصبح ديدنهم، أنا مقتنع تماما رغم كل تهديداتهم لنا بأنه لا بدّ من التضحية بالشأن الخاص لخدمة الشأن العام.

- أنا معك، لكن بصراحة..

وطال صمتها مع المزيد من البكاء والنشيج..

- بصراحة ماذا؟ والله إنّي لأعرف ماذا يعتمل في عقلك. تخشين على فرصك في الزواج، ثقافة مجتمعنا تظلمنا كثيرا.

- لا أريد أن أزيد خسارة على خسائرنا الكبيرة، خسرنا بيوتنا وكثيرا من أهلنا، أحوالنا وأموالنا كلّها أكلتها هذه الحرب المجنونة، لم يتبق لأحدنا إلا ما نحمل من شرف ودين وضمير حيّ.

- أنت إنسانة مؤمنة والله سبحانه وعدنا أن يجعل لنا مخرجا إذا كنّا على تقوى الله، "ومن يتق الله يجعل له مخرجا".

- الحمد لله، تربينا على أن نكون حريصين على تقوى الله.

- ومن تقوى الله يا سيّدتي أن نعرّي الظالمين ونكشف ظلمهم للناس "لا يحبّ الله بالجهر من السوء من القول إلا من ظلم"، وتعلمين أن الساكت عن الحق شيطان أخرس.

- اسمعي أحكيلك أنا مقتنعة بما تقولينه ولكنّي نفسيّا لست قادرة، أنا كلما مرّ شريط ما فعلوا بي أكاد أستفرغ أمعائي، أشعر بسكاكين تضرب نصالها في قلبي، قولي لي كيف يتخيلّني الناس وأنا أتحدّث عن الاغتصاب الهمجي؟ كيف كبّلوا يدي من الخلف ثم.. لا لا أستطيع أن أكمل، مجرّد إعادة الشريط عذاب ما بعده عذاب.

- لا داعي للتفاصيل نحن نوثّق شهادتنا على أصولها في مؤسسة حقوقية ونطوي الصفحة.

- بهذه البساطة نطوي الصفحة، ليتني أستطيع ذلك.

وضعت راحة يدي على كتفها برفق وقلت بحماسة هادئة:

- يا عزيزتي دعي الحديث لي، نحن أمام هدف نبيل، خاصّة أنّهم ادّعوا على رجال مقاومتنا أنهم اغتصبوا نساءهم يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وثبت كذبهم ولم يستطيعوا الإتيان بدليل واحد، نحن الآن الدليل القطعي على أنّهم ارتكبوا هذه الجريمة، نحن أمام هدف عظيم يستحقّ منّا هذه التضحية.

- أنا جاهزة توكّلي على الله، لن يضيّعنا الله.

- رنّ هاتفي فإذا به الصحفي الذي رتّبت معه على عقد مؤتمر للإفصاح عن الأمر.

- اليوم الثانية بعد الظهر ستأتي الصحافة ووكالات أجنبية، جاهزة؟

- نعم جاهزة ومعي المعتقلة الثانية التي حدثتك عنها.

- عظيم جدا.

- وسيأتي مندوب عن الأمم المتحدة لتسجيل الشهادة.

- التوقيت جدا مناسب، "نتنياهو" بالأمس يتشدّق بأن جيشه هو أكثر الجيوش أخلاقية في العالم.

- بالفعل لم يعد الصمت محتملا.
التعليقات (0)

خبر عاجل