قضايا وآراء

هزل الإصلاح الديني في غياب الإصلاح السياسي

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
مصطلح (الإصلاح الديني) جعل منه (وول ديورانت) عنوانا مستقلا لجزء مستقل من موسوعته (قصة الحضارة) وهو المجلد الثالث عشر على ما أذكر في طبعة (الهيئة العامة للكتاب) المصرية.. نعلم جميعا أن الإصلاح الديني تم في أوروبا على مرحلتين الأولى: مرحلة إخراج الكنيسة من الدولة والثاني: مرحلة النقد التاريخي للنصوص المقدسة.. الإصلاح الديني كان في أوروبا مسألة حياة أو موت وهو بالفعل عمليا ترك وراءه بقعة دم كبيرة غطت وجه أوروبا كله تقريبا وبقعة جدل عريضة جدا لا يزال إلى الآن مفتوح على نقاشات واسعة في أوروبا وفي العالم العربي والإسلامي أيضا.. وسمعنا عن تطورات ما بعد العلمانية (مدرسة فرانكفورت/ هابرماس) وسمعنا عن العلمانية الشاملة، والجزئية (د.المسيري).. 

وأتصور أن الموضوع قابل لنقاشات متطورة.. وأتصور أيضا أنه لو كان الأمر متصل بالدين فقط في أوروبا ما كان قد حدث كل ذلك.. لكن الموضوع كان يتصل بصراع وجود بين الدين وتمثله الكنيسة والدولة التي يمثلها الملك.. كان كل منهما يناضل للحلول محل الأخر وإزاحته تماما.. وانتهى الموقف بهزيمة المؤسسة الدينية.. وتكونت علمانية الغرب الصاخبة التي لم تبعد الدين عن الدولة فقط لكنها أبعدته أيضا عن المجتمع وعن الدنيا كلها.. 
 
في ثقافتنا حين يذكر مصطلح (التجديد الديني) تأتي على الفور إلى الوعي حركة جمال الدين الأفغاني وصاحبه محمد عبده ومن تلاهم من العلماء والمفكرين وحتى السياسيين (سعد باشا زغلول كان يعتبر نفسه تلميذا لموقظ الشرق جمال الدين كما كان يسميه).. الذين بدأوا ما لم يكتمل -حتى الآن- من تجديد (أمين) لمفاهيم وتطبيقات صحيح الدين ونصوصه.. ولم يزايد عليهم أحد في هذه (الأمانة) التي صاحبتهم في كل آرائهم الواصلة بين الدين والحياة.. رغم المعوقات الضخمة (سياسيا بالأساس)التي واجهت أفكارهم ومشروعهم الكبير في النهوض بالأمة.

وما نسمعه هذه الأيام عن الإصلاح الديني والثورة الدينية لا علاقة له بالتجديد الذى تعرفة الأمة تاريخيا وعلميا هو فقط استنساخ ماسخ لتجربة الإصلاح الديني في أوروبا كما ذكرت في إشارتي السريعة أولا.. والأهم هو حالة مخاصمة لصحيح الدين والتجربة التاريخية للآمة في التكوين الحضاري.. 

والنماذج التي تتصايح في الفترة الأخيرة بأحاديث حول (الدين) لا تريد إعمال مبدأ التجديد ولا علاقة لها بأدواته ووسائله.. للتواضع الشديد في قدراتهم العقلية والعلمية والفكرية من جهة ولأنهم يكذبون على أنفسهم وعلى الناس من حولهم.. فقصتهم الأصلية مع (حركية) الإصلاح الاجتماعي والسياسي بالمفاهيم الإسلامية والتيار الذي يحمل هذه المفاهيم الحركية.. هم خصوم لهذه المفاهيم ولا يريدونها ولا يحتملون رؤيتها في واقع الناس لأنهم لا يشعرون بها، ولم تتحرك في وعيهم وإدراكهم كمفاهيم كبرى لإقامة الحياة الإنسانية بتمامها وكمالها كما يريدها الإسلام.. هم مسلوبون تماما في إطار مفاهيم أخرى وتجارب أخرى.. وسواء كانوا يؤمنون بهذه المفاهيم الأخرى حقيقة أم زيفا.. فهذا شيء لا يعني الناس العاديين الطيبين البسطاء الذين يؤمنون أن الإيمان والحياة لا يفترقان.. كما قال محمد إقبال في قصيدته التي غنتها السيدة أم كلثوم..              
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ***ولا دنيا لمن لم يحي دينا
 
 ومن رضي الحياة بغير دين*** فقد جعل الفناء له قرينا..

حقيقة الأمر عند المجددين الأمناء أن لديهم مشروعا إصلاحيا (سياسيا وفكريا واجتماعيا) لأوطانهم التي أنهكها احتلال الأجنبي الذي خرج وترك وراءه استبداد الدولة الوطنية الحديثة (العسكرية).. مشروعهم هذا موفور الصلة بالدين نصوصا وتجربة وموفور الصلة بالناس إيمانا وفهما وأن اعتراه ما يعتري المفاهيم والأفكار من جمود في الفهم وتراخ في التطبيق.. هم يؤمنون أن الإسلام في ذاته وفي العقل والوجدان الجمعي للمسلمين دين ودنيا.. إيمان وسياسة.. والصلة بينهما عرفت عبر التاريخ موجات مد وجزر تتصل بطبيعة الشرط التاريخي داخل التجربة البشرية التي يتحمل كل نتائجها من عاشها ومارسها.. ولا يحملها أحدا غيرهم .

وتبعا لاختلاف هذا الشرط عرف تيار الإصلاح الحضاري ما طرحه رواد التجديد الديني من مطلع القرن الماضي كالطهطاوي والأفغاني والكواكبي ومحمد عبده ورشيد رضا والبنا وأمين الخولي و المراغي وشلتوت ومحمد ومحمود شاكر وطنطاوي وجوهري وأحمد أمين وقطب والعقاد.

المشكلة دائما كانت في العلاقة بين (التجديد) الديني و الإصلاح السياسي.. والتي وقفت له سلطة الاحتلال وسلطة الدولة الوطنية الحديثة بالمرصاد ورفضته رفضا عنيفا.. ورفض الاحتلال معروف ومفهوم.. أما رفض الدولة الوطنية هو الذي لا زال يشكل لغزا لغيزا حتى الآن.. لأنه لم يكن رفضا عنيفا فقط ولكن أيضا كان رفضا فقيرا في محتواه البديل.. ومعروف أن الدولة العربية الحديثة بعد الاحتلال لم تقدم مشروعا إصلاحيا له قوام فكري وسياسي واجتماعي صلب.. وفشلت على كل ألوان الفشل وجرجرت مجتمعاتها التي اغتصبت إرادتها اغتصابا.. جرجرتها في مستنقعات الذل والهزيمة.

لذلك فالاكتفاء بالدعوة الصماء المملة إلى (الإصلاح الديني) هو محض جهد ضائع طالما لم يحدث (الإصلاح السياسي).

كل المجددين نادوا بالحريات المدنية وربطوا تقدم المجتمع بالسير وفق المنهج المدني للحقوق والحريات، ولم يجدوا فوارق كبيرة بين الإسلام ومبادئ القانون التي ترتكز عليها المجتمعات المتقدمة.. الشيخ الإمام (محمد عبده) أرجع فساد الأوضاع السياسية إلى سبب رئيس هو فساد تربية الحاكم والمحكوم، معتبرا الخلل في السياسة أصل كل فساد.. وقال لأحد أصدقائه: فإن شئت القول إن السياسة أصل كل فساد.. تضطهد الفكر أو الدين أو العلم، فأنا معك من الشاهدين.
0
التعليقات (0)

خبر عاجل