قضايا وآراء

رفض التطبيع ثقافة مصرية

1300x600

في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977 كانت زيارة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات إلى القدس، والتي مثلت زلزالا سياسيا هز المنطقة والعالم، ثم أتبعها بعد 16 شهرا بتوقيع اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني في آذار/ مارس 1979. وقد تضمنت تلك الاتفاقية بنودا خاصة بتطبيع العلاقات بين البلدين، وسعى السادات لتنفيذها في حياته، وأكمل المسيرة نائبه حسني مبارك بعد وفاته، (بالمناسبة كانت نهاية السادات أمام منصة الاحتفالات بذكرى أكتوبر في العام 1981 ردا مباشرا كما أعلن قاتلوه على زيارته لإسرائيل وتوقيعه اتفاقية السلام، إضافة إلى حيثيات أخرى).

على مدى أكثر من أربعين عاما بذل النظام المصري جهودا جبارة لتسويق التطبيع مع الكيان الصهيوني على المستوى الشعبي، لكن الفشل كان هو دوما الحصاد، ومن المنطقي أن مرور هذه العقود الأربعة على بدء عملية التطبيع دون تحقيق الهدف المنشود أعطى مناعة للشعب المصري في مواجهة أي محاولات جديدة، حيث تحول رفض التطبيع إلى ثقافة مصرية تتوارثها الأجيال. ولا نبالغ إذا قلنا إن الطفل المصري يولد من بطن أمه محملا بعداء إسرائيل، ولا يزال الهتاف الخالد في مظاهرات الغضب: "هنرددها جيل ورا جيل بنعاديكي يا إسرائيل".

 

 

بذل النظام المصري جهودا جبارة لتسويق التطبيع مع الكيان الصهيوني على المستوى الشعبي، لكن الفشل كان هو دوما الحصاد، ومن المنطقي أن مرور هذه العقود الأربعة على بدء عملية التطبيع دون تحقيق الهدف المنشود أعطى مناعة للشعب المصري في مواجهة أي محاولات جديدة

ثقافة الشعب المصري الرافضة للتطبيع لم تنبع من فراغ، بل نتيجة حروب ودماء وأشلاء وحقوق سليبة. لقد خاضت مصر خمس حروب ضد الصهاينة في الأعوام 1948، و1956، و1967، وحرب الاستنزاف بعد هزيمة حزيران/ يونيو، وحرب 1973، وقدمت مصر في تلك الحروب أكثر من مائة ألف شهيد، يتوزعون على كل مدن وقرى مصر. ففي كل قرية حكاية لشهيد أو مصاب في تلك الحروب، وفي كل قرية ثأر لم يسترد، وخاصة الأماكن التي تعرضت لقصف الطيران الإسرائيلي خلال حرب الاستنزاف سواء في قلب القاهرة أو الدتا أو الصعيد.

في طفولتنا كنا نتلقى توجيهات من أبائنا ومعلمينا بأن لا نمسك بالأشياء الملقاة على الأرض مهما كانت جذابة؛ خشية أن تكون مفرقعات إسرائيلية. لك أن تتخيل طفلا صغيرا يجد أمامه لعبة مغرية ملقاة على قارعة طريق فيتجنبها ويفر منها، وكيف ستكون نظرة هذا الطفل مع الوقت لذاك العدو المتهم بوضع هذه اللعبة في طريقه لتدميره. وإلى جانب الشهداء لم ينس المصريون أسراهم الذين تم قتلهم بدم بارد على يد قادة عسكريين إسرائيليين لا يزالون في سدة الحكم حتى اليوم!

لقد كانت ولا تزال كلمة العدو ذات معني حصري واحد عند عموم الشعب وهو الكيان الصهيوني، رغم كل محاولات تجميل وجه ذلك الكيان، وتسويقه شعبيا، ونخبويا.. الخ. ظل هذا الكيان جسما غريبا ينبذه الجسم المصري، كما يلفظ جسم الإنسان أي عضو غريب عليه، وحين قام رجل التطبيع الأول، وزير الزراعة الأسبق يوسف والي، بإرسال بعض الوفود من الزراعيين (مهندسين وفلاحين) إلى إسرائيل في الثمانينيات بزعم دراسة تجاربها في الزراعات الحديثة، فإن هؤلاء جميعا تعرضوا للاعتداءات البدنية واللفظية عند عودتهم إلى قراهم، وهو ما تسبب في وقف تلك البعثات.

حتى الآن لا يستطيع سائح إسرائيلي أن يتعامل بشكل طبيعي في أي مدينة مصرية (باستثناء مناطق السياحة في جنوب سيناء)، أو أن يكشف عن هويته الإسرائيلية بل يتدثر بهويات دول أخرى، ولم تستطع أي فرقة فنية إسرائيلية، أو أي فنان إسرائيلي المشاركة في مهرجانات فنية في مصر، ولم يستطع أي متجر مصري أن يبيع منتجات إسرائيلية، على خلاف الوضع في الدول "محدثة" التطبيع مثل الإمارات، حيث يجري بيع المنتجات الإسرائيلية علنا في بعض متاجرها، وحيث يتم رفع أعلامها في شوارعها، وحيث تتوافد الوفود الفنية للمشاركة في احتفالاتها، والتي دفع الفنان محمد رمضان ثمن التصوير مع فنان إسرائيلي على هامشها.

لعبت النقابات المهنية والفنية والنوادي الرياضية والاتحادات الطلابية والقوى السياسية دورا عظيما في مواجهة التطبيع، وقيادة حركة المقاومة الشعبية ضده، فاتخذت الجمعيات العمومية للنقابات المهنية قرارات برفض التطبيع ومساءلة أي عضو يخالف ذلك، وظهر ذلك بصورة جلية في النقابات الفنية والرياضية ونقابات الرأي مثل المحامين والصحفيين، حيث رفض اتحاد النقابات الفنية مبكرا كل المحاولات للتطبيع، ورفض السماح لأي فنان مصري بالسفر إلى إسرائيل أو مشاركة فنانين إسرائيليين آخرين، وهو الموقف الذي سبقت إليه أيضا نقابة الصحفيين وحافظت عليه في جمعيات عمومية متتالية، وصولا إلى بيانها الأخير ضد الفنان رمضان.

لم يكن الفنان محمد رمضان هو أول من تعرض للعقوبات النقابية (بخلاف العقوبات الشعبية) بل سبقه الكاتب المسرحي الكبير علي سالم (مؤلف مسرحية مدرسة المشاغبين) الذي فصله اتحاد كتاب مصر بسبب زيارته لإسرائيل عام 1994، ورفضت كل المسارح العامة والخاصة التعامل مع مسرحياته لاحقا، كما قررت نقابة السينمائيين فصل المخرج الراحل حسام الدين مصطفى بسبب زيارته لإسرائيل، (وإن اكتفى اتحاد النقابات الفنية فيما بعد بتوجيه اللوم له فقط على سبيل التحذير من تكرار هذا الفعل).

وعلى المستوى الإعلامي قررت نقابة الصحفيين في شباط/ فبراير 2010 وقف الكاتب الصحفي حسين سراج نائب رئيس تحرير مجلة أكتوبر لمدة ثلاثة أشهر بسبب زيارته لإسرائيل، كما وجهت إنذارا للصحفية هالة مصطفى، رئيس تحرير مجلة الديمقراطية (مؤسسة الأهرام)، بسبب استقبالها دبلوماسيا إسرائيليا في مكتبها.

وحين استقبل الإعلامي توفيق عكاشة السفير الإسرائيلي في منزله في 2016 تم إسقاط عضويته من البرلمان فورا، ورغم كل التحفظات على هذا البرلمان إلا أنه اتخذ قراره مجاراة لموجة غضب شعبي، وفي ظل ضوء أخضر حكومي. كما وجهت نقابة المهن التمثيلية إنذارا لمهرجان الجونة لصاحبه رجل الأعمال نجيب ساويرس بعد استضافته الممثل الفرنسي جيرارد ديبارديو في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي؛ لمواقفه المعلنة من دعم الاحتلال الإسرائيلي.

 

 

الموقف النقابي والفني والرياضي والبرلماني ساهم في ترسيخ ثقافة رفض التطبيع في مصر، والتي كان أحدث تجلياتها ما حدث مع الفنان محمد رمضان

وعلى المستوى الرياضي رفضت كل الفرق الرياضية المصرية دعوات للعب في الكيان الصهيوني، أو استقبال فرق إسرائيلية، بل رفض الكثير من الرياضيين المصريين في الألعاب الفردية مواجهة نظرائهم الإسرائيليين، مضحّين بميداليات ذهبية وبرونزية وجوائز مالية كبيرة، كما رفض بعض لاعبي كرة القدم أو السلة عروضا من نواد عالمية شهيرة بسبب وجود لاعبين إسرائيليين فيها.

لا نستطيع أن نقول إن الإجراءات النقابية أو البرلمانية المناهضة للتطبيع نجحت في إنهاء كل مظاهر التطبيع تماما، حيث لا تزال بعض المظاهر القائمة برعاية حكومية مثل اتفاقيات "الكويز" التي تمنح بموجبها الولايات المتحدة حصصا للصادرات المصرية والأردنية ذات المكون الإسرائيلي، لكن هذا العمل يظل في إطاره التجاري بعيدا عن السياق الشعبي. ومع ذلك فإن الموقف النقابي والفني والرياضي والبرلماني ساهم في ترسيخ ثقافة رفض التطبيع في مصر، والتي كان أحدث تجلياتها ما حدث مع الفنان محمد رمضان.

twitter.com/kotbelaraby