قضايا وآراء

نظام الكفيل صك من صكوك العبودية والجاهلية الأولى

1300x600
أول سؤال يتبادر إلى ذهنك: ما هي الجهة القانونية أو النظام الذي سن قانون الكفيل؟ وهل كانت له أهداف ومصالح ترجى من ورائه؟!

تعالوا بنا ننبش ذاكرة التاريخ لعلنا نجد أجوبة لهذه الأسئلة المثيرة.

المتأمل في نظام الكفيل في أنحاء دول الخليج، يجد أنه أقل ما يقال عنه أنه إرث استعبادي بامتياز، واسترقاق عمالة بأساليب حديثة.

إلا أن المفاجأة حينما نعلم أن الذي سن نظام الكفالة هو الاستعمار البريطاني، بناء على دراسات تاريخية في حقبة العشرينات من القرن الماضي وحتى ما قبله، والعمل مستمر به إلى يومنا هذا في كل دول الخليج.

وقد نشأ العمل به في بلاد البحرين، على إثر العمالة الأجنبية الوافدة من الهند وباكستان وغيرهما للعمل في تجارة اللؤلؤ في بحر الخليج.

وقد ارتأت السلطات البريطانية الاستعمارية آنذاك ضرورة تطبيق الكفالة على العمالة الوافدة من أطراف إمبراطوريتها المترامية، من الهند إلى الخليج، لتقنين عملية الدخول والخروج، وضبط المجال الأمني الذي تحت سلطتها، لا سيما أن طبيعة العمل آنذاك في مجال الغوص والتنقيب عن اللؤلؤ كانت حساسة، بحكم أنها كانت تدر أموالا طائلة يستفيد منها المستعمر في الأول والآخر. وحسب ما أكدته الدراسات، فإن هذا النظام قد بدأ تطبيقه في بعض دول الخليج سنة 1915، ثم أعقبتها الكويت سنة 1925، وبعدها قطر سنة 1938 والإمارات سنة 1946، بما في ذلك الجزيرة العربية آنذاك.

ليس بالضرورة تأصيل نظام الكفيل تاريخيا، بقدر ما تهمنا تداعيات هذا النظام اليوم على العمالة الأجنبية بجميع أنواعها. والسؤال: إلى متى سيظل تفعيل قانون الكفيل في دول الخليج في ظل النظام العالمي الحديث وحقوق الإنسان؟

نظام الكفيل هذا أمام النظام العالمي الحقوقي لا يمكن أن نصفه إلا كنوع من الاسترقاق المقنن للعمالة الأجنبية. فهل حاولت بعض دول الخليج إلغاء نظام الكفالة بينما أخرى تترقب؟

أولا، لا بد من تحديد مفهوم الكفالة المعمول بها في دول الخليج: فهو عبارة عن عملية تعاقدية بين صاحب الشغل المسمى الكفيل، والمكفول الذي هو العامل تحت وصايته شبه الإدارية. وبين الكفيل والمكفول ترسانة من القوانين المعقدة التي ترجع بالضرر على العامل الأجنبي، بينما يظل الكفيل المستفيد الأول والأخير ممسكا برقبة العامل.

ويظل مفهوم الكفالة عملية بيروقراطية معقدة وسلطة يمتلكها الكفيل، بغض النظر عن تفاوت درجاته وكفاءته المعرفية للمكفول، سواء أكان مهندسا مقاولا أو طبيبا صاحب مؤسسة صحية. في المقابل، فإن الكفيل لا يلزمه القانون بكفاءات معينة تجاه المكفول الذي قد يكون بالضرورة أكفأ منه. أما الوساطة الثانية فهي بين الكفيل ومكتب العمل والمكفول بينهما في الوسط، للتحكيم والتقاضي في الخصومات.

تفصيل الإشكال التعاقدي بين الكفيل والمكفول والضرر المترتب عليه

منظومة الكفالة في الخليج تفصل بين نوعين من العمالة، لكل واحد منهما قواعد تترتب عليها قوانين معينة. على سبيل المثال العمالة العالية الكفاءة، كالمهندسين والأطباء، فإن عقود العمل ترتفع قيمتها المالية كثيرا مقارنة مع العمالة الحرفية أو المنزلية. لذلك وتحت هذا البند تحصل تلاعبات وفساد في سوق العمالة من خلال تزوير عقود العمل، بتغيير صفة العمل أحيانا من كفاءة عالية إلى مهن وحرف بسيطة لتخفيض قيمة العقد المالية. والمستفيد في هذه المرحلة هو الكفيل، وفي غالب الأحيان تضيع حقوق العامل المالية عند التقاضي في مكتب العمل إذا انعدمت لديه الشواهد.

ويجدر هنا أن نميز بين الكفالة الفردية من خلال السلطة التي يُطوق بها الوافد الأجنبي، والعمل تحت إمرته، وبين العمل داخل شركة متوسطة أو كبيرة، فإن نظام الكفيل هو نفسه يطبق على منظومة العمل، إلا أن الإجراءات التعسفية المتطرفة التي يمارسها أحيانا الكفيل الفرد الواحد على المكفول؛ تنعدم أو يصبح لها وجه إداري مقنن، بخلاف أن الكفيل الفرد تسيطر عليه المزاجية والتنمر، وأكل الحقوق المالية هو السائد في غالب الأحيان.

السؤال: إلى متى يظل نظام الكفيل نقطة سوداء في منظومة العمالة الوافدة في الخليج؟

تم الحديث مؤخرا في السعودية على وجه الخصوص عما سمي بتصحيح "العلاقة التعاقدية بين صاحب العمل والوافد"، وقد انطلق تفعيل هذا الإصلاح في 14 آذار/ مارس الماضي. ويقال إن البحرين تسير على نفس المسار.

وبالتالي ستتم العلاقة التعاقدية بين صاحب العمل أو الشركة، سواء الانتقال من عمل لآخر أو السفر خارج الحدود، إلكترونيا من غير طلب للموافقة أو عدمها.

ويظل السؤال: هل ستطوى صفحة نظام الكفيل والوجه الاستعبادي للأبد؟ أم ستظل منه بعض البنود سارية المفعول وسيفا مسلطا على رقاب العمالة الأجنبية، وسوطا يُجلد به الكفيلُ العامل متى تغير مزاجه؟

بلاغ الهروب شبح يؤرق صاحبه

وعلى الرغم من أن الكثير من الأوساط الحقوقية داخل السعودية على سبيل المثال رحبت بهذا التغيير، على أنها خطوة إيجابية وجب تشجيعها، إلا أن الوجه السلبي من نظام الكفيل لا زال كالحا، بأثر رجعي، خصوصا "بلاغ الهروب"، إذ يظل العمل به نافذا بالنسبة للمسجلين سابقا تحت طائلته، وذلك قبل تفعيل القانون الجديد السالف الذكر في 14 آذار/ مارس، ويطبق للأسف على كل أنواع العمالة! وتقول بعض الإحصائيات إن هناك أكثر من 25 ألف بلاغ هروب مسجل.

وبلاغ الهروب نوعان: نوع عادي وبلاغ كيدي أي تعسفي، بمعنى كأن يحصل خلاف بين صاحب العمل والعامل، فيبلغ عنه السلطات بتهمة "الهروب من العمل". وبسبب هذا البلاغ فإن كل سبل الحياة الطبيعية لهذا العامل تتوقف وتصبح حركته في البلد مقيدة، ولا يحق له سحب وإيداع أمواله، أو تجديد الإقامة، وهلم جرا.

والخلاصة أن نظام الكفيل بصفة عامة وبند "بلاغ الهروب" بصفة خاصة، هو نوع من أنواع الرق الضارب في أعماق الجاهلية الأولى بلا منازع، كونه سلوكا متطرفا سالب للحقوق الإنسانية، وأسوأ ما فيه أن الكفيل تعطى له السلطة المطلقة على كفيله، وفي حالة الخصومة يصبح الخصم والقاضي، وأي ادعاء ادعاه صاحب العمل على العامل يؤخذ به ما لم تكن هناك إثباتات أو شواهد تنفي ذلك. وبالتالي فإن مصير العامل يكون تحت رحمة كفيله، فإن لم يكن مجالا لـ"العفو"، فإن مصيره يكون بين السجن والترحيل، ويُحرم من الدخول إلى البلد إلا بعد مرور خمس سنوات.

وبغض النظر عن الحديث عن قانون "بلاغ الهروب"، فإن نظام الكفيل بمجمله يكون تحت وصاية الكفيل، لا يحق للعامل السفر أو تغيير طبيعة عمله.. الخ، إلا بإذنه. وفي غالب الأحيان يحتفظ الكفيل بجواز السفر للتحكم في تحركات الموظف.

أما في حال وفاة صاحب العمل، فإن الكفالة تنقل بالضرورة إلى ورثته، وتتعقد المسألة حينما يكون الورثة خارج أرض الوطن.

البعض قد يتبرأ من أصل تطبيق نظام الكفيل رغم أن مضمون الكلمة اصطلاحا غير مَعيب، فينسبونه إلى تركة الاستعمار البريطاني. وفعلا هو تركة استعمارية ما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، فإذا اعتبرناها كذلك، فهل هذا مُبرر مقبول يسمح لنا بأن نرث تركة استعبادية بهذا الشكل؟! كان الاستعمار يطبقها على "الرعايا" المستعمرين في أرجاء إمبراطوريته، بينما ننزلها نحن بشكل أكثر سوءا على العمالة الوافدة من الخارج، لمجرد أنهم يشتغلون على أرض غير وطنهم، على طريقة الرق والاستعباد، ونحن تجمعنا عقيدة واحدة وعروبة ودم!