قضايا وآراء

نبوءة بسام جرار وضرورة الحسِّ النقديّ

1300x600
كادت الفترة الزمانيَّة التي عيَّنها الشيخ بسام جرار لتحقق نبوءته بزوال "إسرائيل" أن تنتهيَ مع قرب انقضاء عام 1443 الهجريِّ، إذ ظلَّ يؤكد دائماً أن هذه النبوءة ستتحقَّق في فترة التقاء عامي 2022 الميلادي، و1443 الهجريّ.

اعتمدَ الشيخ جرار في توقعاته على ما أسماها موافقاتٍ رقميَّةً في القرآن، واللافت هو مستوى الثقة العالي الذي ظلَّ يتحدَّث به حتى قبل أسابيع قليلةٍ من انتهاء الموعدِ المتوقَّع، وكان يعطي النبوءة دقةً تصل إلى نسبة 95 في المئة، وهي دقة لا يجرؤ على إعطائها حتى علماء الطبيعة الذين يعتمدون في تنبؤاتهم على الملاحظات والتجارب الدقيقة، لذلك لا معنى هنا للقول إنه لم يقطع بتحقق النبوءة فهذه النسبة تمثل عملياً منتهى الثقة والجزم.

تمنَّى كثير من الناس تحقق النبوءة، ولا تؤشر الرغبة في تصديق النبوءة على قوتها العلمية بقدرِ ما تؤشر على طبيعة النفس الإنسانية التي تتعلق بالأمل مهما كان واهياً وواهماً.

لذلك تفوَّق "الظنُّ وما تهوى الأنفس" في قلوب الناس على العقل المجرد، وتمنَّوا أن يثبت خطأ كل قناعاتهم العقلية والمنهجية في مقابل أن تتحقق هذه الأمنية.
تفوَّق "الظنُّ وما تهوى الأنفس" في قلوب الناس على العقل المجرد، وتمنَّوا أن يثبت خطأ كل قناعاتهم العقلية والمنهجية في مقابل أن تتحقق هذه الأمنية

بعد أن ابتعدت احتمالات تحقُّق النبوءة، بحثَ فريقٌ من المتعصِّبين لها عن إطارٍ فكريٍّ جديدٍ للتعامل مع إحراج الموقفِ، فأشهروا سيف "اجتهد وأخطأ" وله أجرٌ واحدٌ على اجتهاده، ثمَّ تحوَّل موقفهم الدفاعيٌّ إلى موقفٍ هجوميٍّ من الذين يهاجمون هذه النظريَّة؛ ووصفهم بأنَّ في قلوبهم مرضاً وأنَّهم لا يقدرون مكانة العلماء!

من الضروريِّ التذكير بأن القضية لا تتعلق بشخص بسام جرار، وبعيداً عن هذه النبوءة فقد قدَّم الشيخ جرار فهماً جميلاً متميِّزاً في كثير من معاني القرآن.

إنَّما تتعلَّق المسألة بمنهج تفكيرٍ وإطار رؤيةٍ في التعاملِ مع الواقعِ، هذه النبوءة ليست سوى ثمرة لمنهج التفكير، وما لم يعالَجُ منهج التفكير ذاته ويخضع لمراجعاتٍ فإنَّه سينتج مزيداً من الأوهام في المستقبل.

لذلك فإنَّ إشهار حجة "اجتهد فأخطأ" يمثِّل تهرباً من المسؤولية، ورغبةً في طيِّ الصفحةِ سريعاً كأنَّ شيئاً لم يحدث، دون مراجعةٍ لأسس التفكيرِ ودون استثمار هذا الإخفاق في إحداث تحوُّلٍ جذريٍّ في طريقة التفكير.

وصف أي بحثٍ أو دراسةٍ بأنها اجتهاد لا يحصِّنها من النقدِ العلميِّ وبيان مواطن ضعفها ومهاجمة الأوهام التي تروِّج لها. ومن المؤسف هنا ملاحظة "ازدواجية المعايير" التي يتعامل بها فريق من الإسلاميين، إذ إنَّ حجة "اجتهد فأخطأ" تستعمل للتهوين من أخطاء الإسلاميين، بينما لا يتم استعمال نفس الحجة لتقييم الرؤى الفكرية لغيرهم.
وصف أي بحثٍ أو دراسةٍ بأنها اجتهاد لا يحصِّنها من النقدِ العلميِّ وبيان مواطن ضعفها ومهاجمة الأوهام التي تروِّج لها. ومن المؤسف هنا ملاحظة "ازدواجية المعايير" التي يتعامل بها فريق من الإسلاميين، إذ إنَّ حجة "اجتهد فأخطأ" تستعمل للتهوين من أخطاء الإسلاميين

فإذا كان يحقُّ للإسلاميّ أن يجتهد فيخطئ، حتى وإن كان اجتهاده كارثياً في إشاعة الأوهام، فلماذا لا يُنظر إلى الرؤى الفكرية لغير الإسلاميين أنها اجتهادات يؤجر أهلها؟!

كان الشيخ بسام جرار يجيب الذين يسألونه: ماذا لو لم تتحقَّق هذه النبوءة؟ بأنَّ العجيب هو ألا تتحقق هذه النبوءة، وليس أن تتحقَّق، وهو ما يطرح سؤالاً: من أين استمدَّ الشيخ كل هذه الثقة ما دامت نبوءته لم تتحقق في النهاية؟!

يتمثل الإشكال الرئيس لنبوءة بسام جرار أنَّها وضعت النتيجة مسبقاً ثمَ طوَّعت كل الشواهد المتخيَّلة والعلاقات المتوهمة والروابط المتكلَّفة لخدمة هذه النتيجة التي يراد الوصول إليها مسبقاً، وهذا موطن ضعفٍ فادحٍ في طريقة التفكير العلميِّ، إذ إنَّ قوةَ الاستنتاج العلميِّ هي في تفعيل منهج الفحص والتشكيك والنقد والتمحيص للتأكد من أن النتائج مجردة من الهوى والتحيُّزِ.

المنهج العلميُّ الراسخ يثير دائماً أسئلةً تشكيكيةً لفحص قدرة الفرضية على الصمودِ وإثبات نفسها، فمثلاً إذا وضع عالِم التاريخ فرضيةً تقول إنَّ الحضارات القديمة كانت تنشأ دائماً على ضفاف الأنهار، فإنَّه يرصد كل الحضارات القديمة ويتحقق من أماكن نشأتها، فإذا ظهر أن هناك حضاراتٍ نشأت بعيداً عن الأنهار اختلَّت فرضيته.

ما فعله الشيخ بسام جرار هو النقيض تماماً، فقد كانت نقطة البدء التي انطلقت منها النبوءة أنَّه سمع شيخاً ينقل عن عجوزٍ يهوديَّةٍ تقول لأمِّه في عام 1948 إن كتب اليهود تقول إن دولة إسرائيل ستعمِّر ستةً وسبعين عاماً ثم يذبح اليهود فيها.

هنا سأحاكم نقطة البدء التي انطلق منها بسام جرار علميّاً لإظهار ضعف نظريته منذ لحظتها الأولى، ومناقضة ذلك لمنهج القرآن ذاته الذي يرسخ دائماً منهج التثبت واليقين ويذمُّ الظنَّ واتباع الهوى: "إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى".
هنا سأحاكم نقطة البدء التي انطلق منها بسام جرار علميّاً لإظهار ضعف نظريته منذ لحظتها الأولى، ومناقضة ذلك لمنهج القرآن ذاته الذي يرسخ دائماً منهج التثبت واليقين ويذمُّ الظنَّ واتباع الهوى

أولاً: كيف يؤسَّس لنظرية تعتمد على آيات القرآن سماعاً عن سماعٍ من عجوزٍ أميَّةٍ، ومن المعلومِ أن التناقل الشفويَّ هو أضعف الإثباتات في المنهج العلميِّ؟

ثمَّ إنَّ هذه العجوز اليهودية تقول إن كتب اليهود تذكر أن دولة إسرائيل ستعمِّر ستةً وسبعين عاماً!

هذه النبوءة هي معلومة دقيقة وليس كلاماً عامَّاً، لذلك من المنطقي أن تثير فضول كلِّ من يقرؤها. فلماذا لم نسمع ولم نقرأ طوال الأعوام الأربعة والسبعين الماضية من يشير إلى هذه النبوءة ويعيِّن لنا مكان وجودها في الكتب؟ ولماذا لم يبحث الشيخ جرار نفسه، أو أحد المؤمنين بنظريته وهم بعشرات الألوف، في كتب اليهود القديمة وأخرج لنا النص الذي يذكر هذه المعلومة المدَّعاة؟!

هل يعقل أن هناك كتاباً مقدساً لليهود لم يكن يملكه سوى هذه العجوز في العراق أو أحد الأحبار الذين نقلت عنهم؟!

من المنطقي لو افترضنا وجود هذه النبوءة فعلاً في كتب اليهود أن يكون هذا الكتاب معروفاً، وألا يعجز واحد على الأقل من التفتيش والبحث وإظهار هذه النبوءة لنا.

ثانياً: يقول الشيخ بسام جرار إنَّه بدأ يعدُّ كلمات سورة الإسراء وفي عقله رقمان محتملان: 1443 أو 2022، ليفاجأ بأنَّ عدد الكلمات بين "وآتينا موسى الكتاب.." إلى "جئنا بكم لفيفا" ١٤٤٣ كلمةً، ويبرر تحديد نقطتي البداية والنهاية للعدِّ بأنها بداية النبوءة ونهايتها في سورة الإسراء!

مجرد وضع رقم في عقله مسبقاً هو نقطة ضعفٍ في المنهج العلمي كما أشرت سابقاً، ومن الواضح أنه اختار أحد هذين الرقمين لموافقة نبوءة العجوز العراقية، لكنّي جربت عدَّ هذه الكلمات باستعمال الحاسوب فوجدت أنها 1445، وهو ما يعني التشكيك في دقَّة الحساباتِ عموماً وليس في هذا الموطنِ وحده.

ثمَّ لماذا بدأ بالعد من "وآتينا موسى الكتاب" ولم يبدأ بالعد من "وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين.."، مع أن الثانية تبدو أقرب إلى موضوع النبوءة من الأولى؟!

هذا مثال على أضرار وضع النتيجة مسبقاً ثم تكييف الشواهدِ لتلائمها وما ينتج عن ذلك من تكلُّف!

ثالثاً: وضع النتيجة مسبقاً قاد الشيخ إلى عدم الثباتِ المنهجيِّ وعدم وجود معايير واضحة في حساباته، فالحسابات أخذت شكل التجربةِ والخطأِ حتى تصادف إحدى التجارب النتيجة التي نريدها.

وللتوضيحِ، فإن الشيخ بسام جرار في دراساته يحسب أحياناً الكلمات، وأحياناً أخرى الآيات، وفي أحيانٍ ثالثةٍ الحروف، وفي بعض الأحيان يلجأ إلى قراءة حفص عن عاصمٍ، وفي أحيانٍ أخرى يستنتج من رواية ورش عن نافعٍ، وفي مواطن أخرى يحاول تأكيد نظريته وفق حسابات الجُمَّل، وحتى داخل حسابات الجُمَّل ذاتها، إذا تجاوزنا ضعف هذه الطريقة، فإنَّه لا يوجد معايير واضحة، فهو أحياناً يحسب جمَّل كلمةٍ أو عبارةٍ أو آيةٍ، فإذا لم يدل الرقم على شيء جمع أو طرحَ حتى تخرج النتيجة في النهاية موافقةً لافتراضه المسبق في عقله!

ويظهر التكلُّف في الاستدلال بعبارات لا يوجد أي امتيازٍ خاصٍ لها وليست من القرآن، مثل عبارة "فاتح الأرض المباركة"، أو "فاتح الأرض المقدسة"، والاستبدال ما بين المقدسة أو المباركة حسب ملاءمة النتيجة، ثم حساب جمَّل هذه العبارات والجمع أو الطرح عليها بحثاً عن النتيجة المتمنَّاة!

ثمَّ لو افترضنا صحة حسابات بسام جرار فإنَّ الآية التي يجعلها محور حسابات نبوءته هي الآية (104) من سورة الإسراء: "وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً"، وهي آية لا تشير إلى زوال دولة إسرائيل، بل هي إلى العكس أقرب، تشير إلى اجتماعهم في أرض فلسطين، أي أنَّه لو صحَّت النبوءة فلماذا لا تكون نبوءةً لاجتماع اليهود وليس لزوالهم؟!!
خطورة منهج بسام جرار في الحسابات الرقميَّة أنَّه يخرج القرآن من مقصده الرئيس، ويحوِّلُ التعامل معه إلى مجموعة من الأحاجي والألغاز

من المهمِّ إظهار مواطن الضعف هذه، وغيرها كثيرٌ، حتى لا تسند توقعات بسام جرار إلى القرآن، فالقرآن هو اللافتة الكبيرة التي رفعها الشيخ بسام جرار في دراساته، لكن طبيعة الدراسة لا تستقيم مع المنهج القرآنيِّ وهي بعيدة عن مقاصده ومعانيه.

خطورة منهج بسام جرار في الحسابات الرقميَّة أنَّه يخرج القرآن من مقصده الرئيس، ويحوِّلُ التعامل معه إلى مجموعة من الأحاجي والألغاز.

القرآن يبين رسالته ببساطة وقوة: هدىً ونور، ورحمة، وذكرى، وشفاء لما في الصدور. فإذا انشغل العقل وهو يقرأ القرآن في حساب عدد الحروف والكلمات والآيات، فإنَّ هذا سيصرفه عن الموعظة المباشرة التي تتضمنها الآيات.

كما أنَّ منهج البحث عن التوافقات الرقميَّة في القرآن يعطِّل المحتوى السننيَّ الذي يفصِّله هذا الكتاب، فالقرآن يفصِّل في مئات الآيات سنن النصر والغلبة والابتلاء والمدافعة، وهو يدعو المؤمنين إلى السير في الأرض وإلى العملِ والإعدادِ وإلى فقه قوانين الحياة. فإذا تحوَّل التعامل مع القرآن إلى مجموعة من الأحاجي والحسابات الرقميَّة، فإن هذا التوجه سيصرف القلوب عن سنن الله تعالى في الحياة.

لا يمكن الفصل بين طريقة البحث عن التوافقات والإعجاز الخارق في التعامل مع القرآن وبين أزمة المسلمين العقلية والحضاريَّة، إذ إنَّ من المعلوم أن الأمم في أحوال قوتها الفكرية والحضاريَّة فإنها تبادر إلى الفعلِ والبناء وتهزم التحديات، وهذه هي دعوة القرآن أصلاً، فهو يحفِّز في المؤمنين روح العمل والبناءِ والإعمارِ والإعدادِ، ولا يعِدهم بالخوارق ولا يطلعهم على الغيب: "وما كان الله ليطلعكم على الغيب"، "وَلَآ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلَآ أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ".

لكنَّ الأمم إذا دخلت في أحوالِ الضعف والعجز، وأمسكَ غيرها بزمام العملِ والمبادرة، فإنَّها تحاول معادلة الشعور بالعجز بتوليد مثل هذه القراءات التي تبحث عن الألغاز والتدخل الغيبي الخارق بديلاً عن قوانين العمل والنصر والتدافع المعلومة.
الأمم إذا دخلت في أحوالِ الضعف والعجز، وأمسكَ غيرها بزمام العملِ والمبادرة، فإنَّها تحاول معادلة الشعور بالعجز بتوليد مثل هذه القراءات التي تبحث عن الألغاز والتدخل الغيبي الخارق بديلاً عن قوانين العمل والنصر والتدافع المعلومة

أي أنَّ المسلمين في حالات القوة والعافية فإنهم يقرؤون القرآن ويفهمون منه رسالة العمل والأخذ بالسنن والانطلاق في الحياة، بينما في حالات الضعف تروج فيهم مثل هذه القراءات الإلغازية الإعجازية، لأنَّ فهم القرآن بأنه ألغاز وأحاجيُّ يرضي في النفس أمنية التغيير الخارقِ الذي يواسي عجزنا وقلة حيلتنا!

ينبغي ألا تطوى صفحة نبوءة بسام جرار التي انشغل بها كثير من الناس ثلاثين عاماً دون أن ننتفع بالدرس الأهمِّ منها، هذه النبوءة دلَّت على مدى قوة إيحاء الوهم وقدرته على تخييل علاقات لا تصمد أمام منهج التمحيص والنقد العلمي، ودلَّت هذه النبوءة أيضاً بشكل مؤسف على مدى نشاط النهج التبريري والتقليد الأعمى في أوساط فريقٍ من الإسلاميِّين، وهو ما يؤكد ضرورة تعزيز ملكة النقدِ والفحص والتمحيص في عقولهم، حتى لا يظلُّوا معزولين داخل جدرانٍ سميكة من الأيديولوجيا بعيداً عن فهم سنن الواقع والحياة.

إخفاق النبوءة ينبغي أن يعيد الاعتبار إلى القرآن بأنه كتاب هداية ونور، وليس كتاب خوارق وغيبياتٍ وحسابات ظنيةٍ، وأنَّ للنصر أسبابه التي لا تتوقف على سعي الإنسان وليس تمنيّاته، وأنَّ الغيرة على سلامة العقول من الوهم مقدَّمة على التعصب لأي شخص أو جماعة.

twitter.com/aburtema