أفكَار

جدلية الدين والواقع.. أيهما يستمد معياريته من الآخر؟

أكاديميون يتحدثون لـ "عربي21" عن العلاقة الجدلية بين الدين والواقع
تتمثل جدلية الدين والواقع في صور مختلفة، وتتجلى في مظاهر متعددة، تتراوح في أبرز تمثلاتها بين رؤى دينية تتشبث بنظرتها الاستعلائية على الواقع، وتصر على إخضاعه بكليته لرؤاها وتصوراتها الدينية، وبين نظرات باتت تجد نفسها مضطرة لتكييف تصوراتها ورؤاها الدينية تكييفا يتماشى مع إكراهات الواقع، وظروفه السياسية والاجتماعية القاهرة.

ومن اللافت، أن أرباب الرؤية الأولى ينتقدون أصحاب النظرة الثانية بشدة، لما أحدثوه من تغيير أفكارهم، وتبديل تصوراتهم، بخضوعهم للواقع وخنوعهم لإكراهاته، وتأثرهم بالتيارات العلمانية والحداثية، الأمر الذي يثير تساؤلات جادة حول جدلية الدين والواقع، وأيهما يستمد معياريته من الآخر في منهجيات الفهم والممارسة الدينية السائدة.

وأمام تحولات بعض الاتجاهات الإسلامية في رؤاها ومواقفها من الواقع القائم بمختلف مناحيه وشوؤنه؛ من تبني المواقف الراديكالية في مناهجها التغييرية، إلى الاندماج بالواقع والسعي لتوسيع رقعة الانتشار تحت مظلة شرعية الواقع السياسي الراهن، يبرز السؤال الإشكالي الأكبر: لماذا لم تبنِ تلك الاتجاهات تصوراتها منذ بداياتها آخذة بعين الاعتبار تحديات الواقع وإكراهاته؛ حتى لا تظهر بمظهر المتراجع عن مبادئه وأصوله المؤسَّسة؟

في مقاربته للحديث عن علاقة الدين بالواقع، لفت أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة بجامعة عبد المالك السعدي في تطوان المغربية، الدكتور عبد الرحمن القاطي، إلى أنها "مسألة إشكالية قديمة، وتتجاذبها ثنائيات منهجية من قبيل: المطلق والنسبي، والقطعي والظني، والحقيقي والاعتباري، وغيرها مما لا يكون النقاش إثباتا لهذه العلاقة أو نفيا لها، خلوّا من الوقوع تحت تأثيرها".

        عبد الرحمن القاطي، أستاذ أصول الفقه جامعة عبد المالك السعدي بالمغرب

وأضاف: "ولعله من السائغ في الأنساق غير المؤمنة بما وراء المحسوس، أن يكون نفي علاقة الدين بالواقع تابعا لنفي الدين نفسه، لكن النقاش داخل النسق المؤمن (الإسلامي تحديدا)، يأخذ منحى آخر حين ينتقل إلى رصد التردد بين حضور كلي أو جزئي للدين في معايرة الواقع، وضبطه به تبعا لخيارات منهجية ومذهبية مخصوصة".

وواصل الأكاديمي المغربي، حديثه لـ"عربي21" بالقول: "ففي الوقت الذي نجد للخط السلفي التقاء موضوعيا مع الخط الظاهري في توسيع صلاحية النص (بمفهومه الفقهي لا الأصولي)، سواء الثابت قطعا أو ظنا؛ في المعايرة الملزمة للواقع تحت شعار (إذا استطعت ألا تحكَّ رأسك إلا بدليل فافعل"، ما أفضى سلوكيا (فرديا ومجتمعيا) إلى إثقال عجلة الحياة اجتماعيا وسياسيا وتنمويا بالكثير من الموانع والأغلال والآصار، التي لا تصمد في اختبار اليقين ثبوتا ودلالة".

وأردف: "نجد على الجانب الآخر، الخط الصوفي الذي أعفى الدين من أعباء الشأن العام؛ قاصرا إياه على الجانب الروحي والتربوي، ليضطلع التيار الحركي بمهمة البحث عن موقع بين هذين الخطين، بالرغم من تأثره الواضح هو الآخر بثقافة الأخذ بالأحوط حين ارتهن لقواعد الاستدلال المتوارثة نفسها، وهو يبحث عن نفسه من خلال مدافعات تأخذ صورا تختلف وتتباين من حيث طبيعة التفاعل والاحتكاك بالمؤسسات الرسمية في هذه الدولة أو تلك".

من جهته نبَّه الباحث المصري، مدير منتدى الشرق للأبحاث الاستراتيجية، الدكتور محمد عفان، إلى "أهمية التمييز بين ثلاثة جوانب من الدين: العقائد والشعائر والشرائع الخاصة بتنظيم السلوك الاجتماعي.. فالعقائد المتعلقة بقضايا الإيمان والتوحيد واليوم الآخر، هي أمور تؤخذ تسليما، ويكون تفاعلها مع الواقع نادر الحدوث؛ كونها في الأغلب الأعم أمورا تتعلق بعالم الغيب وليس عالم الشهادة".

وأضاف: "ثم الشعائر الدينية التعبدية كالصلاة والصيام والزكاة والحج، التي أوجدها الشرع، فالأصل فيها أيضا التسليم مع بعض الاجتهادات التي قد تطرأ للتعامل مع واقع جديد، دون أن يغير من جوهر الشعيرة الشيء الكثير، ثم الشرائع الحياتية وهي المتعلقة بتنظيم العلاقات الاجتماعية وتوزيع السلطة والثروة في المجتمع".


                          محمد عفان، مدير منتدى الشرق للأبحاث الاستراتيجية.

وتابع عفان في حديثه لـ"عربي21": "وهذه يكون تفاعلها مع الواقع كثيفا؛ نظرا لأن النصوص الشرعية التوقيفية الصريحة والصحيحة في هذه المسائل، محدودة نسبيا مقارنة بتلك المتعلقة بالشعائر والعقائد، ولأن تنزيلها يكون مع واقع يتغير بشكل مضطرد، ومن ثم لا يمكن تعميم نمط العلاقة بين الدين والواقع، كما لا يمكن الحديث عن علاقة أحادية الاتجاه بين الشرائع الدينية والواقع كذلك".

وأوضح أنه "ليس مطلوبا من الدين دوما أن ينصاع لإملاءات الواقع واضطراراته دون أن يقوّمه متى احتاج ذلك، كما أنه من غير المتوقع أن يشكل الدين الواقع بشكل تام متجاهلا السياق الذي يتفاعل معه، وهو ما قد يؤدي في بعض الأحيان إلى تضييع بعض المصالح أو الوقوع في مفاسد، وهو عكس المقصود".

وأردف: "لهذا تحتاج هذه العلاقة الجدلية بين الدين والواقع إلى صيغ مركبة لإدارتها، تتداخل فيها الاجتهادات الفقهية مع العلوم الاجتماعية والإنسانية، والوحي الإلهي مع المنطق البشري، وتتعاون فيها المؤسسات العلمائية كدور الإفتاء مع المؤسسات المعبرة عن الأمة التقليدية منها والحداثية كالأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، مع مؤسسات السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، للوصول إلى تقاسم أدوار مثمر وفعال فيما يخص إدارة المجتمعات".

وفي ذات الإطار، أكدّ الناشط الإسلامي الكويتي، عضو وإعلامي في حزب التحرير، أسامة الثويني، أن "الإسلام كمبدأ هو المعيار للفكر والتصورات والطريقة والمنهج، وهذا مصداق العديد من النصوص الشرعية القطعية، كقوله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، ومبدأ الإسلام يُخضع الواقع ويشكله وليس العكس".


                          أسامة الثويني، ناشط إسلامي كويتي.

وتابع: "فالواقع حسب هذا المنظور هو موضع التفكير وليس مصدره، إلا أن أساليب تنفيذ أحكام الشرع بعد أن يُوذن بها شرعا، تحددها إمكانات الواقع، ومن هنا كانت السياسة فن الممكن، ولكنه الممكن الذي يقابل المستحيل، فليست السياسة فن المستحيل، فالأفكار التي لا تتعلق بالوقائع الممكنة ليست سياسة، بل هي فروض منطقية أو مجرد خيالات" على حد قوله.

وواصل: "كما أن الواقعية بمعناها الخاطئ في السير حسب الواقع هو كذلك ليس سياسة، لأنه لولا تغير الأشياء حسب الممكنات، لما وجدت سياسة ولا وجد تاريخ أصلا، فالتاريخ هو تغيير الواقع بواقع غيره، لذا كان لا بد من إدراك أن السياسة هي رعاية شؤون الأمة بحسب أحكام الإسلام، وليس بحسب الواقع أو ما يمليه الواقع".

ولفت في حواره مع "عربي21" إلى أن "الواقع المعاصر ـ كنظام وأرباب ـ، لا يسمح بأحكام الشرع الإسلامي أن تعود للحياة السياسية والاقتصادية" متسائلا: "فهل نَعْدِل عن ذلك المسعى ونُعدّل من أحكام الشرع؟"، ليجيب: "كلا، بل نسعى بكل قوة لاستئناف الحياة الإسلامية كما هو مقتضى العبودية لله، وإلا صرنا أسرى لأرباب الواقع ونظامه".

وعن مقاربة الاتجاهات الإسلامية لجدلية الدين والواقع فكرا وممارسة، ذكر الثويني أن مقاربتها لذلك "متفاوتة، فبعض تلك الاتجاهات التزمت بصرامة بجعل الواقع موضع التفكير وليس مصدره، وبعضها الآخر تساهل فصارت تميل مع الواقع يمنة ويسرة، واتجاهات أخرى لم تجعل الواقع مصدر التفكير ولا موضعه؛ لأنها ببساطة انفصلت عن الواقع أو لم تتصوره كما هو".

ورأى أن انتقال بعض الاتجاهات الإسلامية من رؤى ومواقف إلى أخرى مختلفة، يرجع إلى كون "الفكرة التي أقامت عليها رؤاها كانت أفكارا عامة غير محددة، علاوة على أنها كانت تفقد التبلور والنقاء والصفاء، إضافة إلى أنها لم تكن تعرف طريقة لتنفيذ فكرتها، بل كانت الفكرة تسير بوسائل مرتجلة وملتوية، وأمر آخر مهم هو أنها كانت تعتمد على أشخاص لم يكتمل فيهم الوعي الصحيح، ولم تتمركز لديهم الإرادة الصحيحة، بل كانوا بشكل عام أشخاصا عندهم الرغبة والحماس فقط".

وشدد الثويني على أن "أساس المشكل هنا هو في عدم تصور الإسلام كمبدأ، الفكرة والطريقة فيه شرعيتان، فطريقة تغيير المجتمع وبناء الدولة هي طريقة شرعية مأخوذة من عمل النبي عليه الصلاة والسلام في إقامته للدولة في المدينة، سوى ذلك واقعية مقيتة، وتكيف وتماشٍ مع الواقع الفاسد"، حسب رؤيته.  
 
بدوره، رأى الباحث الأردني المهتم بالدراسات القرآنية، موسى حداد، أن جدلية الدين والواقع وأيهما يستمد معياريته من الآخر: "جدلية طارئة فرضتها نتائج تجارب القوى الإسلامية السياسية المعاصرة، خاصة فيما يُعرف بالربيع العربي وارتداداته، لكننا إذا ما عدنا إلى الأصل؛ إلى الوحي، سنجد حسما لهذه الجدلية".


                       موسى حداد، باحث أردني مهتم بالدراسات القرآنية.

وتابع حديثه لـ"عربي21" مستدلا بقوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا *وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا)، مبينا أن الآيتين ترشدنا إلى "كيف نتعامل مع ما يطرأ علينا من الواقع الذي وصفه الله في وصف جامع".

وأردف حداد: "ففي حالة الأمن: السلم وما شابهه وما تحتاجه الأمة من إنتاج مؤسساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية. وفي حالة الخوف: حرب أو ما شابهها، كيف يكون التصرف؟ جاء التوجيه برد كل هذا إلى أهل الاستنباط، ولا يكون الاستنباط إلا من خلال تدبر القرآن كما في الآية الكريمة".

وبناء على ذلك، فإنه "يتحتم على الحركات الإسلامية أن تضع في بنيتها القيادية مؤسسة أهل الاستنباط، وهي تختلف من حيث الدور عن مجلس الشورى؛ فأهل الاستنباط يضعون الاستراتيجيات الكلية والمرحلية الحاكمة من خلال رفع واقع واستنزال نص، أي يأتمون سياسيا بـ(إمامة الوحي)، أما أهل الشورى، فوظيفتهم في إبداع وجلب وحتى استيراد الأدوات الأكفأ من أي مكان، بغض النظر عن دينه، لتطبيق الاستراتيجيات التي استنزلها أهل الاستنباط".

ولتوضيح ما يعنيه بأهل الاستنباط، استحضر حداد مثالا واقعيا لبيان أهمية وجودهم، ومركزية دورهم، وهو ما واجهته الحركات الإسلامية في تجربة الربيع العربي، بما عُرف بمؤسسات الدولة العميقة، فلو وجد أهل الاستنباط في بنية تلك الحركات القيادية، لاستنزلت على واقعها كيف أن رسول الله عليه الصلاة والسلام أرسل مصعبا إلى المدينة المنورة قبل أن يهاجر إليها، فمكث عامين وهو يفكك البنية العميقة لمكونات المدينة من أوس وخزرج، وما هاجر رسول الله إلا والمدينة كلها جاهزة، بل متشوقة لاستقباله".  

ونبه إلى أن "استحضار آيات كريمة، كقوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، و(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، يبين أن ما يحول بين المسلمين أو (الإسلاميين) وتفوقهم، هو واقعهم الداخلي، وليس ما يملك عدوهم من أسباب القوة والتفوق".

وتابع: "لذا؛ فإنني أرى أن تلك الحركات ذهبت إلى تدافعها مع الواقع دون أن تعد لذلك عدته: من استنزال شعارها بأن القرآن دستورنا على أرض الواقع، فلم تأتم بإمامة الوحي، الذي يحتم عليها أن تفقه واقعها الداخلي، وتعلم هي في أي طور، وما هي أولويات وتكاليف هذا الطور، فلكل طور إعداده وبناؤه الإيماني الذي يعمل عليه، وتوسيع أفرادها لحمل التكليف، ولكل طور استراتيجياته وأدواته".

وختم حداد كلامه بالقول: "بل خاضت هذا التدافع مع الواقع كأي تشكيل سياسي علماني أو وطني أو قومي، فأخرجت نفسها من المعية التي كفلها الله للمشروع المستقيم على أمره، فانكشفت لضربات الواقع، فأصبح أسمى أمانيها تحت وقع تلك الضربات أن تحافظ على وجودها، ولو كان هذا الوجود أشبه بالموت السريري".