كتاب عربي 21

أكاديميون يتساقطون

1300x600
لم يخطئ الماركسيون عندما وصفوا المثقفين أو بعضهم بأنهم متخاذلون ولا يعتمد عليهم في تغيير الأحوال ورفع الظلم عن الناس. هؤلاء يهتمون بمصالحهم الخاصة حتى لو كان ذلك على حساب الأوطان والفقراء والمساكين، وهم يتطلعون دائما إلى الفئات الأوفر حظا من الناحية المادية عساهم يحصلون على بعض المتاع فتتحسن أوضاعهم المادية. هؤلاء لا يعتمد عليهم في مسيرة التغيير، بل من الممكن جدا أن يكونوا أدوات السلطان أو الحاكم لقمع التغيير وتثبيت الأمر الواقع.

في تاريخنا الفلسطيني المعاصر ومنذ بداية الغزو الصهيوني حتى الآن، يبدو أن العديد من الأكاديميين والمثقفين لعبوا أدوارا متخاذلة أثرت سلبا على مسيرة النضال الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الصهيوني، ومنهم من تعاون مع الصهاينة وأرباب الصهاينة من قوى عالمية ومحلية من أجل الحصول على مكاسب خاصة. ولا أدل على ذلك إلا ما يتخذه العديد منهم من مواقف الآن إزاء الاتفاقات مع الكيان الصهيوني والتنسيق الأمني معه والتطبيع، وتأييد ملاحقة الفلسطيني للفلسطيني دفاعا عن الأمن الصهيوني، ومجاراة الفساد والاستعداد للتغطية على ممارسيه.

إذا نظرنا إلى الخريطة البشرية الفلسطينية، وعلاقتها بدعم الكيان الصهيوني وتثبيته على حساب الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، لن نجد فلاحا واحدا أو نجارا أو حدادا أو خياطا أو عاملا من أي نوع كان قد زاحم ليذهب إلى طاولة المفاوضات مع الكيان الصهيوني. هؤلاء جميعا أعظم من أن يستعملوا الوطن مادة للمساومات، فتراهم يرقبون ما يقوم به المثقفون وأساتذة الجامعات عن بعد والحسرة تملأ قلوبهم. أما الأكاديميون والعديد من كبار المثقفين الفلسطينيين فأقبلوا بتنافس وصراعات فيما بينهم لكي يتقدموا صفوف سماسرة الوطن.

بداية في مؤتمر التفاوض الذي انعقد في مدريد، تنافس مثقفون كثر على حضور ذلك المؤتمر، ومنهم من غضب على فصيله وتنظيمه لأنه لم يرشحه أو لم يطلب منه المساهمة في خيانة الوطن والمواطنين. وكان قادة التنظيمات حذرين في المشاركة بسبب الإحراجات التي يمكن أن يقعوا بها مع أبناء تنظيمهم. شارك أكاديميون في مؤتمر مدريد، ومنهم من استمر بالتفاوض حتى النهاية، أي حتى سمع عبر وسائل الإعلام أن اتفاقا بين منظمة التحرير والكيان الصهيوني قد تم. ومن هؤلاء الأكاديميين من استمر في المفاوضات حتى يومنا هذا مع علمه ويقينه أنه مفاوض فاشل وغير قادر على انتزاع شيء من أنياب إسرائيل.

هناك بالتأكيد عملاء وجواسيس أكاديميون يعملون لصالح إسرائيل، وقد تأكدت من ذلك من خلال حلقات الاعتقال التي تعرضت لها إذ أن بعض التهم التي وجهت إلي لا يعرف أمرها إلا أكاديميون كنت أجلس معهم كل يوم في نقاش العديد من القضايا الوطنية. لكن أغلب المتزاحمين على خيانة الوطن ينطلقون من حب البحث عن مكان ودور سياسي يبرزهم أمام الملأ. من أجل الوجاهة والمفاخرة واكتساب مكانة اجتماعية ولو وهمية، لدى الأكاديمي الاستعداد للمساومة على الوطن، أو على الأقل مد يد العون للذين يسمسرون على الوطن لأنهم هم أصحاب القرار، وهم الذين يقررون كيفية شغل المناصب في السلطة الفلسطينية. فضلا عن المكانة التي يمكن أن يحققها الأكاديمي المتساقط، هو يحقق أيضا مكاسب مادية من حيث الراتب والتقاعد والنثريات والسائق الخاص، الخ. وفي النهاية يسأل الأكاديمي نفسه: أيهما أفضل التمسك بالمعايير الوطنية والتعرض للمساءلة والاعتقال والإحراءات التعسفية أم المساهمة في السمسرة والحصول على مكاسب؟ الجواب بالنسبة لأكاديميين كثر هو تحقيق المكاسب. لقد طوع أكاديميون أنفسهم مطايا لسياسيين فاسدين آثروا خيانة الوطن والمواطن.

ماذا لو كان الأكاديمي أستاذا في العلوم السياسية وهو طالما تحدث لطلابه عن معايير الديمقراطية والشرعية وعن أهمية الهوية الوطنية وصدق الانتماء الوطني؟ في فلسطين الآن كما في السابق لا تتوفر شرعية لأحد لكي يقود شعب فلسطين، وقد سبق أن تحدثنا عن هذه المسألة عبر موقع "عربي21" في مقال سابق. كيف يقبل مدرس في العلوم السياسية على نفسه التفاوض باسم الشعب الفلسطيني وهو يعرف مسبقا أن وجوده في منصب المفاوض غير شرعي؟ وكيف يقبل مدرس علوم سياسية أن يكون عضوا في حكومة غير شرعية وهو يعرف مسبقا كما يعرف كل الناس أن الحكومة التي ينتمي إليها غير شرعية؟ وكيف يمكن أن يكون رد فعل الطلاب عندما يعون أن مدرسهم كان يكذب عليهم، وأن الشرعية ليست قضية مهمة عندما تأتي إلى المكاسب الشخصية؟ كان المدرس يتحدث بالأصول والمبادئ والأسس في غرفة الدرس، ويعطي الصورة الجميلة للنظام السياسي الناجح، لكنه يسقط بسهولة أمام الاختبار. واضح أنه ليس المعلم في المدرسة فقط هو الذي يزيغ عن الأصول للمحافظة على راتبه، وإنما الأستاذ الجامعي يفعل ذلك ليس محافظة على راتبه وإنما طمعا في مكاسب إضافية. والمأساة الأعظم أن الأكاديميين يتحدثون لطلابهم عن محاسن الديمقراطية ويقولون لطلابهم إن العرب لن يفلحوا إلا إذا تبنوا الديمقراطية، وفي الوقت الذي يخدمون فيه الاستبداديين بسبب النعم التي يصيبهم بها المستبد.

هذه مأساة ليست فلسطينية فقط وإنما هي مأساة كل العرب. بسهولة تسمع أكاديميا على الشاشة يدافع عن أنظمة استبدادية عربية تذيق العربي مر التعذيب في نفس الوقت الذي يمتدح الديمقراطية. ولا غرابة، المثقفون يسقطون عادة تحت أرجل السلطويين. الأكاديمي يبحث دائما عن مبررات سقوطه، لكن الفلاح والعامل لا يحتاج إلى ذلك لأن كلا منهما رضع حليب العزة والكبرياء، ولا يأكلان إلا من عرق جبينيهما.