كتاب عربي 21

تهويد الضفة الغربية

1300x600
يتركز الحديث عادة حول تهويد مدينة القدس، لكن قلما نسمع عن تهويد الضفة الغربية التي من المفروض وفق أقوال السلطة الفلسطينية أن تشكل الجزء الأكبر من مساحة الدولة الفلسطينية المأمول بإقامتها. 

بالنسبة للقدس، دأبت الحركة الصهيونية قبل قيام الدولة على التفكير بمستقبل القدس، وأخذت تستدعي الخبراء في تنظيم المدن من البلدان الأوروبية، وتضع الخرائط الهيكلية اللازمة لعملية نسف السمة العربية الإسلامية للمدينة وتحويلها إلى سمة يهودية. 

وقد استمرت إسرائيل بجهود التهويد بخاصة بعد حرب حزيران/1967، إلى أن وصلت إلى الوضع القائم حاليا والذي من الصعب أن نسميه الطابع العربي الإسلامي للمدينة. وظفت إسرائيل خبرات كثيرة وأموالا وفيرة من أجل إنجاز أطماعها في إلغاء الهوية العربية الإسلامية للمدينة وتحويلها إلى مدينة يهودية. 

ماذا فعلنا نحن في المقابل؟ نحن لم نحرر القدس، واكتفينا في أغلب الأحيان في الحديث عن الإجراءات التهويدية التي تقوم بها إسرائيل، ومن ثم البكاء والعويل على مستقبل القدس المظلم. ومن يدري؟ ربما كان عويلنا وبكاؤنا مجرد تمثيلية أمام الإعلام.

إسرائيل تعمل الآن على تهويد الضفة الغربية بعدما أنجزت الشيء الكثير في المدينة المقدسة. صحيح أن إسرائيل لا تبني مستوطنات جديدة الآن، لكنها تركز على أمرين وهما: الأول توسيع المستوطنات القائمة سواء داخل القدس شرق أو داخل الضفة الغربية، والثاني هو تحويل بعض المستوطنات القائمة إلى مراكز إنتاجية صناعية لتشكل عناصر استقطاب للأيدي العاملة العربية وللنشاط الاقتصادي الصهيوني.

تعمل إسرائيل على تطوير المستوطنات اقتصاديا بحيث تصبح شموسا، والقرى العربية حولها تصبح أفلاكا تكسب رزقها ولقمة خبزها من العمل فيها. النية الصهيونية ترمي إلى تحويل المستوطنات أو بعضها إلى مراكز عمل تتوجه إليها الأيدي العاملة الفلسطينية، فتتحول من الناحية النفسية إلى مواقع مرغوب بوجودها ويجب تشجيعها. 

وكذلك تحاول إسرائيل أن تجعل من هذه المستوطنات مراكز تسوق متطورة بحيث يبدأ الفلسطينيون في البحث عما يحتاجون إليه من سلع في المستوطنات تاركين المدن الفلسطينية خلفهم.
تكرر إسرائيل تجربتها في تهويد الجليل (منطقة في شمال فلسطين الاستعمارية) في الضفة الغربية. لقد عملت في نهاية ستينات القرن الماضي وأوائل السبعينات على مصادرة أراضي الفلسطينيين في الجليل، وبنت عليها المستوطنات بمستوى مدن، وأقامت فيها المشاريع الاقتصادية والمصانع واستقطبت الأيدي العاملة الفلسطينية. 

تزايدت الأيدي العاملة الفلسطينية في المواقع الاستيطانية الصهيونية حتى أصبحت تلك المستوطنات محج عمل للفلسطينيين. وقد أقام الفلسطينيون والصهاينة علاقات عمل تطورت مع الزمن حتى تحولت المستوطنات إلى مراكز تستقطب الفلسطينيين، وتدريجيا تحول جزء كبير من الجليل إلى المظهر اليهودي بعدما كان يعكس الهوية العربية الأصيلة بقراه وأبنيتها ونشاطاتها الاقتصادية التقليدية. 

وهكذا اطمأن قادة إسرائيل إلى أن الجليل لم يعد متميزا بعروبته، ولا يعكس خصائص البنية الثقافية العربية ، ولا يتماهى مع لبنان وسوريا. وهذا ما أرادته رئيسة وزراء إسرائيل السابقة جولدا مائير عندما استنكرت الطابع العربي للجليل وأمرت بتهويده.

بالضبط هذا ما يجري الآن في الضفة الغربية، والذي يتجول هنا وهناك في الضفة يرى جماهير العمال العرب وهم يدخلون مستوطنة بركان مثلا صباحا ويخرجون منها مساء. هناك آلاف العرب الفلسطينيين الذين يعملون في أريئيل ومعاليه أدوميم وإفرات وغيرها من المستوطنات ويتقاضون أجورا عالية تفوق الأجور التي يمكن أن يحصلوا عليها في الضفة الغربية. وهناك آلاف الفلسطينيين الذين يؤمون مراكز التسوق الصهيونية مثل مركز رامي ليفي لأنه يقدم سلعا بأسعار أفضل من أسعار ذات السلع في الضفة الغربية.

ولهذا قال لي أحد قادة الفصائل الفلسطينية بأنه ليس مع إزالة المستوطنات لأن زوالها يعني فقدان فرص العمل التي يشغلها الفلسطينيون، والسلطة الفلسطينية لا تملك قدرة على خلق فرص عمل يعتاش منها السكان. فسألته فيما إذا كان بقاء المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية مطلبا وطنيا للسلطة الفلسطينية، فأجاب بنعم. 

وكلامه يعبر فعلا عن سلوك الناس العاديين الذين يهتمون بلقمة خبز أبنائهم على حساب القضية الوطنية. لقد استدخل أغلب الناس الهزيمة والاحتلال، ولم يعد الاحتلال قصة تقض المضاجع أو تؤرق النائمين، ويبدو أن الكثير من الناس قد باتوا يتعايشون مع الاحتلال الصهيوني. 

إذا عجز المسؤول عن إدارة شؤون الناس بحكمة وعلم، وإذا تخطى كل المحرمات الوطنية لصالح الأعداء، فهو يدعو الناس إلى السير على خطاه فتغيب القضية الوطنية عن النفوس والعقول، وعندها يطمئن العدو إلى أن سياساته ناجحة، ونجاحها يؤدي إلى ترسيخ أقدامه. لقد عمل الأمريكيون والصهاينة والفلسطينيون المتصهينون على قتل إرادة الناس ودفن الثقافة الوطنية حتى بات من السهل على العدو تمرير سياساته. والعدو لا يجد مناخا كبير المعاداة له في الضفة، بل يجد أجهزة أمنية فلسطينية مستعدة دائما لملاحقة كل فلسطيني يمكن أن يواجه المستوطنين الصهاينة.

طبعا هناك من لديهم إرادة النضال والتضحية من أجل الوطن، لكنهم يعانون من ضعف الإسناد الفصائلي المنظم، ومن خذلان الناس الذين لا يريدون المشاركة في نشاطات النضال الوطني.